فصل: المسألة الثانية: الكلام في ذلك:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقوله: {إِذْ رَمَيْتَ} فَرْقٌ، وقوله: {وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} جمع. والفرق صفة العبودية، والجمع نعت الربوبية، وكلُّ فرقٍ لم يكن مُضَمَّنًا بجمعٍ وكلُّ جمع لم يكن- في صفة العبد- مُؤَيَّدًا بفرق فصاحبُه غير سديد الوتيرة.
وإن الحقَّ- سبحانه- يَكِلُ الأغيار إلى ظنونهم، فيتيهون في أودية الحسبان ويتوهمون أنهم منفردون بإجراءٍ ما منهم، وذلك منه مكرٌ بهم.
قال الله تعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] وأما أرباب التوحيد فَيُشْهِدهم مطالِعَ التقدير، ويعرِّفهم جريان الحُكمْ، ويُريهم أَنْفُسَهم في أَسْرِ التصريف، وقهر الحكمْ. وأمَّا الخواص من الأولياء وأصحاب العرفان فيُجرِي عليهم ما يُجْرِي و(ما) لهم إحساس بذلك، مأخوذون يثبتهم بشواهد النظر والتقدير، ويتولَّى حفظهم عن مخالفة الشرع.
قوله جلّ ذكره: {وَلِيُبْلِىَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَنًا}.
البلاء الاختبار، فيختبرهم مرة بالنعم ليظهر شكرهم أو كفرانهم، ويختبرهم أخرى بالمحن ليظهر صبرهم، أو ذِكْرَهم أو نسيانهم.
البلاء الحسن: توفيق الشكر في المِنْحة، وتحقيق الصبر في المحبة، وكل ما يفعله الحقُّ فهو حَسَنٌ من الحقِّ لأنَّ له أَنْ يفعلَه. وهذه حقيقة الحَسَن: وهو ما للفاعل أن يفعله.
ويقال حَسُنَ البلاءُ لأنه منه و(...) البلاء لأنه فيه.
ويقال البلاء الحسن أن تَشْهَدَ المُبْلِي في عين البلاء.
ويقال البلاء الحسن ما لا دعوى لصاحبه إنْ كان نعمة، ولا شكوى إن كان محنة.
ويقال البلاء الحسن ما ليس فيه ضجر إنْ كان عُسْرًا، ولا بطر إن كان يسرًا.
ويقال بلاءُ كلِّ أحدٍ على حسبِ حاله ومقامه؛ فأصفاهم ولاءً، قال عليه السلام: «أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل».
قوله جلّ ذكره: {إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
تنفيسٌ لقوم وتهديدٌ لقوم؛ أصحابُ الرِّفق يقول لهم إن الله: {سميعٌ} لأنينكم؛ فَيُرَوِّح عليهم بهذا، وَقْتَهم، ويحمل عنهم ولاءهم، وأنشدوا:
إذا ما تمنَّى الناسُ روْحًا وراحةً ** تمنيتُ أَنْ أشكو إليك فتسمعا

وقالوا:
قُلْ لي بألسنةَ التَّنفُّس ** كيف أنت وكيف حالك؟

وأمَّا الأكابر فلا يُؤْذَنُ لهم في التَّنَفُّس، وتكون المطالبةُ متوجِّهةً عليهم بالصبر، والوقوف تحت جريان التقدير من غير إظهارٍ ولا شكوى، فيقول: لو ترشح منك ما كُلِّفْتَ بِشُرْبِه تَوَجَّهَتْ عليك الملامةُ، فإِن لم يكن منك بيانٌ فإِنِّي لقالتك، عليمٌ بحالتك.
ويقال في قوله: {عليم} تسلية لأرباب البلاء؛ لأنَّ من عَلِم أنَّ مقصودَه يعلم حالَه سَهُل عليه ما يقاسيه فيه، قال- سبحانه- لنبيَّه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: 97]. اهـ.

.قال ابن القيم:

قوله تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}
قلت اعتقد جماعة أن المراد بالآية سلب فعل الرسول عنه وإضافته إلى الرب تعالى وجعلوا ذلك أصلا في الجبر وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد وتحقيق نسبتها إلى الرب وحده وهذا غلط منهم في فهم القرآن فلو صح ذلك لوجب طرده في جميع الأعمال فيقال ما صليت إذ صليت وما صمت إذ صمت وما ضحيت إذ ضحيت ولا فعلت كل فعل إذ فعلته ولكن الله فعل ذلك فإن طردوا ذلك لزمهم في جميع أفعال العباد طاعتهم ومعاصيهم إذ لا فرق فإن خصوه بالرسول وحده وأفعاله جميعها أو رميه وحده تناقضوا فهؤلاء لم يوفقوا لفهم ما أريد بالآية.
وبعد فهذه الآية نزلت في شأن رميه المشركين يوم بدر بقبصة من الحصباء فلم تدع وجه أحد منهم إلا أصابته ومعلوم أن تلك الرمية من البشر لا تبلغ هذا المبلغ فكان منه مبدأ الرمي وهو الحذف ومن الله سبحانه وتعالى نهايته وهو الإيصال فأضاف إليه رمى الحذف الذي هو مبدؤه ونفى عنه رمي الإيصال الذي هو نهايته ونظير هذا قوله في الآية نفسها فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ثم قال وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى فأخبره أنه هو وحده هو الذي تفرد بقتلهم ولم يكن ذلك بكم أنتم كما تفرد بإيصال الحصى إلى أعينهم ولم يكن ذلك من رسوله ولكن وجه الإشارة بالآية أنه سبحانه أقام أسبابا ظاهرة كدفع المشركين وتولى دفعهم وإهلاكهم بأسباب باطنة غير الأسباب التي تظهر للناس فكان ما حصل من الهزيمة والقتل والنصرة مضافا إليه به وهو خير الناصرين. اهـ.

.تفسير الآية رقم (18):

قوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)}

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

الأمر {ذلكم} العظيم الشأن البعيد المتناول الذي أمركم فيه بأوامره ونهاكم به عن مناهيه وأبلاكم فيه البلاء الحسن، وأراكم بأعينكم توهينه لهذه الطائفة التي قصدتكم وأنتم عندها أكلة جزور وعصفور بين يدي صقور، وبين لكم من علل ذلك وعجائب مقدوره ما لم يبق معه عذر لمؤمن، فألزموا طاعته وسابقوا في طاعة رسوله ولا تنظروا في عاقبة شيء مما يأمر به، فإنه ما ينطق عن الهوى بل إنما يأمر عنا، ونحن لم نأمر بشيء إلا بعد تدبيره على أحكم الوجوه وأتقنها {وأنَّ} أي والأمر أيضًا أن {الله} أي الحاوي لجميع صفات العز والعظمة {موهن} أي مضعف إضعافًا شديدًا ثابتًا دائمًا أبدًا {كيد الكافرين} أي الراسخين في الكفر جميعهم، فلا تهنوا في ابتغاء القوم وإن نالكم قرح فإنا نجعله لكم تطهيرًا وللكافرين تدميرًا والعاقبة للتقوى، فنطلعكم على عوراتهم ونلقي الرعب في قلوبهم ونفرق كلمتهم وننقض ما أبرموا. اهـ.

.قال الفخر:

{ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)} في الآية مسائل:

.المسألة الأولى: [في قراءة {موهن كيد}]:

قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {مُوهِنُ} بتشديد الهاء من التوهين {كَيْدَ} بالنصب، وقرأ حفص عن عاصم {مُوهِنُ كَيْدِ} بالإضافة، والباقون {مُوهِنُ} بالتخفيف {كَيْدَ} بالنصب، ومثله قوله: {كاشفات ضُرّهِ} [الزمر: 38] بالتنوين وبالإضافة.

.المسألة الثانية: الكلام في ذلك:

ومحله من الإعراب كما في قوله: {ذلكم فَذُوقُوهُ} [الأنفال: 14].

.المسألة الثالثة: توهين الله تعالى كيدهم:

يكون بأشياء بإطلاع المؤمنين على عوراتهم، وإلقاء الرعب في قلوبهم، وتفريق كلمتهم، ونقض ما أبرموا بسبب اختلاف عزائمهم.
قال ابن عباس ينبئ رسول الله ويقول: إني قد أوهنت كيد عدومك حتى قتلت خيارهم وأسرت أشرافهم. اهـ.

.قال السمرقندي:

{ذلكم}، أي الهلاك والهزيمة للكفار، ويقال معناه الأمر من ربكم.
ثم ابتدأ فقال: {وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين}، يعني مضعف كيد الكافرين، يعني صنيع الكافرين ببدر.
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين} بنصب الواو والتشديد منونة {كَيْدَ} بنصب الدال، وقرأ عاصم في رواية حفص {مُوهِنُ كَيْدِ} بضم النون بغير تنوين {كَيْدَ} بكسر الدال على معنى الإضافة، وقرأ الباقون {مُوهِنُ كَيْدِ} بالتنوين والتخفيف {كَيْدَ} بالنصب والمُوهِنُ والمُوهَنُ واحد؛ ويقال: وهنت الشيء وأوهنته، إذا جعلته واهنًا ضعيفًا. اهـ.

.قال الثعلبي:

{ذلكم} يعني: ذكرت من القتل والرمي والأجل الحسن {وَأَنَّ الله} أي: واعلموا أن الله، وفي فتح {أَنَّ} من الوجوه ما في قوله تعالى: {ذلكم فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النار} وقد بيناه هناك.
{مُوهِنُ} مضعف {كَيْدِ الكافرين} قرأ الحجازي والشامي والبصري: موهّن بالتشديد والتنوين (كيد) نصبًا وقرأ أكثر أهل الكوفة (موهن) بالتخفيف والتنوين (كيد) نصبًا واختاره أبو عبيد وأبو حاتم.
وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن محيصن والأعمش وحفص: موهن كيد، مخفّفة مضافة بالجر فمن نوّن معناه: وهن، ومَنْ خفّف وأضاف قصر الخفّة كقوله: {مُرْسِلُواْ الناقة} [القمر: 27] و{كَاشِفُواْ العذاب} [الدخان: 15] ووهن وأوهن لغتان صحيحتان فصيحتان. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله: {ذلكم}
إشارة إلى ما تقدم من قتل الله ورميه إياهم، وموضع {ذلكم} من الإعراب رفع، قال سيبويه: التقدير الأمر ذلكم، وقال بعض النحويين: يجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير فعل ذلكم {وأن} معطوف على {ذلكم} ويحتمل أن يكون خبر ابتداء مقدر تقديره وحتم وسابق وثابت ونحو هذا، وقرأت فرقة {وإن} بكسر الهمزة على القطع والاسئناف، و{موهن} معناه مضعف مبطل، يقال وهن الشيء مثل وعد يعد، ويقال وهن مثل ولي يلي، وقرئ: {فما وهنوا لما أصابهم} [آل عمران: 146] بكسر الهاء، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر وأبو بكر عن عاصم {موهن كيد} من أوهن، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {موهن كيد} من وهن، وقرأ حفص عن عاصم {موهن كيدِ} بكسر الدال والإضافة، وذكر الزجّاج أن فيها أربعة أوجه فذكر هذه القراءات الثلاث، وزاد {موهّن كيد} بتشديد الهاء والإضافة إلا أنه لم ينص أنها قراءة. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ذلكم}
قال الزجاج: موضعه رفع؛ والمعنى: الأمر ذلكم.
وقال غيره: {ذلكم} إشارة إلى القتل والرمي والبلاء الحسن.
{وأن الله} أي: واعلموا أن الله.
والذي ذكرناه في فتح {أنَّ} في قوله: {وأنَّ للكافرين عذاب النار} هو مذكور في فتح {أنّ} هذه.
قوله تعالى: {مُوَهِّنٌ} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمر: {مُوَهِّنٌ} بفتح الواو وتشديد الهاء منونة {كيدَ} بالنصب.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: {موهنٌ} ساكنة الواو {كيدَ} بالنصب.
وروى حفص عن عاصم: {موهنُ كيدِ} مضاف.
والموهن: المضْعِف، والكيد: المكر. اهـ.

.قال القرطبي:

{ذلكم وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين}
قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو وقراءة أهل الكوفة {مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين}.
وفي التشديد معنى المبالغة.
وروي عن الحسن {مُوهِنُ كَيْدِ الكَافِرِينَ} بالإضافة والتخفيف.
والمعنى: أن الله عز وجل يلقي في قلوبهم الرعب حتى يتشتتوا ويتفرّق جمعهم فيضعفوا.
والكيد: المكر. وقد تقدّم. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {ذلكم} يعني الذين ذكرت من أمر القتل والرمي والبلاء الحسن من الظفر بهم والنصر عليهم فعلنا ذلك الذي فعلنا {وأن الله} يعني واعملوا أن الله مع ذلك {موهن} أي مضعف {كيد الكافرين} يعني مكرهم وكيدهم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ذلكم وأن الله هو موهن كيد الكافرين}
قال: {ذلكم} إشارة إلى البلاء الحسن ومحله الرفع {وأنّ الله موهن} معطوف على {وليبلي} يعني أنّ الغرض إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين انتهى، وقال ابن عطية {ذلكم} إشارة إلى ما تقدم من قتل الله ورميه إياهم وموضع ذلك من الإعراب رفع قال سيبويه: التقدير الأمر {ذلكم}، وقال بعض النحويين يجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير فعل ذلك {وأنّ} معطوف على {ذلكم} ويحتمل أن يكون خبر مبتدأ مقدّر تقديره وحتم وسابق وثابت ونحو هذا انتهى، وقال الحوفي {ذلكم} رفع بالابتداء والخبر محذوف والتقدير ذلكم الأمر ويجوز أن يكون ذلكم الخبر والأمر الابتداء ويجوز أن يكون في موضع نصب تقديره فعلنا ذلكم والإشارة إلى القتل وإلى إبلاء المؤمنين بلاء حسنًا وفي فتح {أن} وجهان النصب والرفع عطفًا على {ذلكم} على حسب التقديرين أو على إضمار فعل تقديره واعلموا {أنّ الله موهن} انتهى، وقرأ الحرميان وأبو عمر و{موهن} من وهن والتعدية بالتضعيف فيما عينه حرف حلق غير الهمزة قليل نحو ضعفت ووهنت وبابه أن يعدى بالهمزة نحو أذهلته وأوهنته وألحمته، وقرأ باقي السبعة والحسن وأبو رجاء والأعمش وابن محيصن من أوهن وأضافه حفص. اهـ.